خالد بن حسين بن عبد الرحمن – رسالة الإسلام
الحمد لله الدائم فلا يزول ولا يتغير, الحكيم الذي جعل في انقضاء الشهور وتقلب الليل والنهار عبرة لمن تفكر, لا إله إلا هو جعل الفلاح لمن عمل بأحكام الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله فتح أبواب رحمته لمن داوم على طاعته, وحجب أنوار هدايته عمن انقاد لشهوته, وانغمس في حمأة رذيلته, وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله إمام المتقين وسيد الأنبياء والمرسلين, اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تمسك بالدين واهتدى بهديه.
أما بعد:
أخي الكريم أختي المباركة: ها نحن قد ودعنا شهر رمضان المبارك بنهاره الجميل ولياليه العطرة, ها نحن قد ودعنا شهر رمضان شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن, شهر مغفرة الذنوب, وستر العيوب وعمارة القلوب, شهر فُتحت فيه أبواب الجنان, وأُغلقت فيه أبواب النيران, شهر كانت فيه مردة الجن والشياطين مصفدة, والخيرات والرحمات فيه مُنزلة, شهر تشرق فيه المساجد بالأنوار, وتُكْثر الملائكة لصوامه من الاستغفار, شهر تعظم في الصدقات, وتُضاعف فيه أعمال البر والخيرات, وتُكفر فيه السيئات, وتُقال فيه العثرات, وتُدفع فيه النكبات, وتُرفع فيه الدرجات, شهر قد فاز فيه من صامه وقامه إيماناً واحتساباً, وخسر فيه من قال فيه زوراً وبهتاناً.
فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه بحسن عمله, أم ليت شعري من المطرود والخسران منا فنعزيه بسوء عمله.
فيا أيها المقبول هنيئاً لك بثواب الله عز وجل عليك ورضوانه, ورحمته وغفرانه, وقبوله وإحسانه, وعفوه وامتنانه, وخلوده في دار أمانه.
ويا أيها المطرود بإصراره وطغيانه وظلمه وعدوانه, وغفلته وخسرانه, وجهله وتماديه وعصيانه, لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه, فأين مقلتك الباكية؟ وأين دمعتك الجارية؟
أخي: ذهب شهر رمضان وولى ومضى كأنه طيف خيال أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً, ذهب شهر رمضان بأيامه الجميلة ولياليه العطرة, وثماره اليانعة وظلاله الوارفة, ورياضه النضرة.
ذهب وقد استودعناه أعمالنا, خيرها وشرها, حلوها ومرها, صفوها وكدرها, إحسانها وإساءتها!
فيا ليت شعري! أيشهد لنا رمضان أم يشهد علينا؟
ذهب رمضان ولم يبقى منه إلا الذكريات الجميلة التي تثير في النفس شجوناً, وتلهب فيها لوعة الشوق للقاء, فيواسيها الأمل ويمنيها إلى معاد.
تذكــــرت أيامـــاً مضــــت ولياليـاً *** خلت فجرت مـن ذكرهن دمــوع
ألا هل لها يوماً من الدهر عـودة *** وهل لي إلى يوم الوصال رجـــوع
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل *** وهــل لبدور قـــد أفلن طلـوع ؟!
ذهب شهر رمضان وربما يكون آخر رمضان في سجل حياتنا!
أتراه يعود علينا؟ أم يُدْركنا المنون فلا يؤول إلينا؟!
هل استفدنا من رمضان؟! هل جنينا من ثماره اليانعة؟ هل تحققنا بالتقوى! وتخرجنا من مدرسة رمضان بشهادة المتقين؟!
هل سعينا إلى العمل بأسباب الرحمة والمغفرة والعتق من النار؟
هل..هل..هل...؟! أسئلة كثيرة وخواطر عديدة, تتداعى على قلب كل مسلم صادق.. يسأل نفسه ويجيبها بصدق وصراحة ماذا استفدت من رمضان؟!
إن رمضان مدرسة إيمانية, ومحطة روحية, يتزود فيها العبد لبقية العام, ويشحذ فيها همته بقية العمر, ورصيد من الأعمال يجده في صحائفه يوم العرض الأكبر على الله جل جلاله..فمتى يتعظ ويعتبر ويستفيد ويتغير ويُغير من حياته وسلوكه وأخلاقياته وعاداته من لم يفعل ذلك في رمضان ؟!
شهر رمضان, شهر خير وبركة, فيه تتضاعف الأعمال, وتَنزل الرحمات, فمن حُرم خير هذا الشهر فقد حُرم, فماذا فات من فاته خير رمضان, وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟ كم بين من حظه فيه القبول والغفران, ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران؟ فمن لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له؟! شهر رمضان شهر العتق من النار, فمن لم يُعتق في هذا الشهر فمتى يُعتق؟!
إذا الروض أمسى مجدباً في ربيعه *** ففي أي حين يستنير ويخصب
كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع ويُجتز من جذوره ثم يُلقى في النار.
كل من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم والخسران.
ذهب شهر الخير والإحسان وانصرما *** واختص بالفوز بالجنات من خدمـــا
وأصبــــح الغافل المسكين منكســــــراً *** مثلي فيا ويله يا عظيـــم ما حُرمــــا
من فاته اـــلزرع في وقت البــدار فما *** تـــــراه يحصـــد إلا الهــــم والندمــا
أخي الحبيب أختي الفاضلة:
عهدناك في رمضان منيباً إلى ربك تائباً من ذنبك, راغباً في رحمة الله وثوابه, خائفاً من نقمته وعذابه, عهدناك في رمضان محافظاً على الصلوات في الأوقات, حريصاً على شهود الجمعة والجماعات, مقبلاً على مجالس العلم والذكر, مستعداً لقبول النصائح والتوجيهات والعظات.
عهدناك في رمضان قواماً تالياً للقرآن, مرتلاً له آناء الليل وأطراف النهار, واقفاً عند حدوده مؤتمراً بأوامره, منتهياً بنواهيه متدبراً لآياته, عهدناك في رمضان مُهذباً نقياً, مُتواضعاً تقياً.
فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن, فعلى أي شيء عزمت بعد انقضاء شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن؟ أو ما حالنا بعد رمضان؟ أو ماذا بعد رمضان؟ وهل هناك وجه مقارنة بين حالنا في رمضان, وحالنا بعد رمضان؟
ولزاماً على كل واحد منا, أن يصدق في جوابه مع نفسه, وأن يتجرد من أحابيل الشيطان وتلبيسه, وأن يترك التماس الأعذار الواهية التي يسلي بها نفسه ويمنيها.
والجواب عن هذا السؤال: ما نراه ونلمسه من حال بعضنا, فبعض الناس قد زادهم رمضان إيماناً فاض عليهم من فضله وألبسهم من حُلله, فزادهم بهجة وضياءاً, فزاد حبهم للخير, وقويت رغبتهم فيه بجميع أنواعه, من صيام وقيام وتلاوة للقرآن, وصدقة وصلاة وبر وصلة رحم, ورأفة على الأيتام, وشفقة على الأرامل وذوي الحاجات, وعطف على الفقراء والمساكين, فتجدهم في أبواب الخير متسارعون, وفي وجوه البر متنافسون, وفي الطاعات متسابقون, وللمعاصي تاركون, وللشهوات منتهون, وعن الشر بكل صوره مبتعدون, ولسان حال الواحد منهم يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(الزمر الآية (13)).
هذا في الدنيا أما في الآخرة فيكون لسان حالهم ومقالهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}(الطور من الآية (25-28)).
فهؤلاء هم الذين استفادوا من رمضان, وتحققت فيهم صفات المتقين, وظهرت فيهم علامات المحسنين, فكان صيامهم إيماناً حقاً, وقيامهم احتساباً صدقاً, جاهدوا أنفسهم في رمضان مجاهدة حقة فألزموها الطاعة ومنعوها من ارتكاب المعاصي, وفعل القبائح والانغماس في الشهوات والملذات, ففازوا برضا الرب, وطمأنينة القلب, ومغفرة الذنب, وتزكية النفس, وعتقها من ذل العبودية لغير الله جل وعلا.
نسأل الله أن نكون من أولئك الذين نفعهم الله بصيامهم وقيامهم. اللهم آمين.
وقسم آخر من الناس كان ملتبساً ببعض الذنوب والمعاصي والآثام, فاعلاً بعض الكبائر العظام الجسام من ترك للصلاة وشرب للخمر, وقطع للأرحام, وسماع للغناء الماجن, ومشاهدة الفيلم الفاضح الداعر إلى غير ذلك من ألوان وصنوف الكبائر التي تغضب الرب جل وعلا, وهذا كله كان قبل رمضان, فلما أتى رمضان وأقبل بنوره وخيره وبركته, تأثر بروحانية شهر رمضان, وسكينة الصيام, وطول القيام, وتلاوة القرآن, وذاق حلاوة المناجاة وشعر بلذة القرب والإنس بالحي القيوم, بعدما جرب مرارة البعد والهجر, فعزم عزماً أكيداً على ترك ما سلف من ماضيه, فطلقه طلاقاً بائناً لا رجعة فيه, وعرف أنه كم كان مقصراً في حق نفسه وفي حق خالقه ومولاه ابتداءاً.
وهذا الصنف إن صدق مع الله في عزمه فسيرى من الله ما يسره قال تعالى:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }(محمد الآية (21)).
فالخير كل الخير في الصدق مع الله تبارك وتعالى, والشر كل الشر في المكر والخداع والكذب على الله, فإن عاقبة ذلك وخيمة ومردودة على صاحبها{..وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..}(فاطر من الآية (43)).
فيا غافلاً عن مصيره, يا واقفاً مع تقصيره, سبقك أهل العزائم وأنت في بحر الغفلة عائم, قف على الباب وقوف نادم, ونكس الرأس بذل وقل: أنا ظالم, وناد في الأسحار وقل: مذنب وراحم, وتشبه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم, وابعث بريح الزفرات سحاب ودمع ساجم, وقم في الدجى منادياً وقف على الباب تائباً ونادماً, واستدرك من العمر ذاهبه, ودع اللهو جانباً, وطلق الدنيا إن كنت للآخرة طالباً, واحمد الله الذي بلغك ختام رمضان, واجعل من هذا الشهر المبارك مرحلة تنقية وتهذيب لسلوكك وأخلاقك, واعلم أن الله يتوب على من تاب{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ...}(المائدة من الآية (39)). وتذكر قول نبيك صلى الله عليه وسلم حيث قال: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " ([1]).
فلما صدق مع الله في التوبة, تاب الله عليه وغفر له, واعلم بأنك إذا تُبت إلى الله ورجعت إليه فرح الله بك فرحاً شديداً مهما بلغ ذنبك كما ثبت بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث القاتل المائة نفس ([2]) وأحاديث التوبة كثيرة فارجع إليها, وجدد التوبة والأدبة مع الله, ولنعزم أخي في الله من الآن على التوبة النصوح, ولنغتنم ذلك قبل فوات الأوان, فما زال في العمر بقية, وما زالت سكينة الصيام قريبة العهد بنا.
أخي في الله:
تجد بعض الناس من الذين تاب الله عليهم في هذا الشهر, وأقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي, والذنوب واقعين, وعزموا على التوبة الصادقة, تروادهم أنفسهم أحياناً إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل التوبة من المعاصي والآثام والملهيات المحرمة من سماع ونظر إلى ما حرَّم الله, إلى غير ذلك من الذنوب, فيجد الواحد منهم نفسه في مفترق طريقين, ويختلج في صدره نداءين وداعيين.
الداعي الأول: هو نداء الفطرة السليمة, وهو داعي الخير والإيمان يناديه ويقول له: امض في طريقك واسلك السبيل فأنت على الهدى والحق, ولا تلتفت لأي نداء آخر.
والداعي الثاني: هو نداء الهوى والنفس والشيطان, وهو داعي الشر يناديه ويقول له: ائتنا هلم إلينا, فطالما أجهدت نفسك وحرمتها مما تشتهي ! فنقول لمن هذا حاله: يا أخي: تمهل واستمع فإني لك ناصح أمين, وعليك مشفق.
أتراك بعدما ذقت حلاوة الطاعة, تعود إلى مرارة العصيان؟! أتراك بعدما ذقت لذة الأنس والقرب والمناجاة تعود إلى لوعة البُعد والهجر والحرمان؟! أتراك بعدما صرت من حزب الرحمن تنقلب على عقبيك فتنضم إلى حزب الشيطان؟! أتراك بعدما حُسبت في عداد المصلين تترك الصلاة وهي عماد الدين وتُكتب من الغافلين؟ وهل يليق بك بعدما كنت في رمضان براً تقياً أن تصير في الإفطار جباراً شقياً؟! ما هكذا يكون المؤمن , بل ما هكذا يكون العاقل المتبصر!.
أخي المسلم أختي المسلمة: يقول الرب جل وعلا:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا...}(النحل من الآية: 92)). فإياك ثم إياك من نقض الغزل بعد غزله.. أرأيت لو أن إنساناً غزل غزلاً, ثم صنع منه قميصاً أو ثوباً جميلاً.. فلما نظر إليه واعجبه.. جعل يقطع خيوط هذا الثوب وينقضها خيطاً خيطاً, وبدون سبب.. فماذا يقول الناس عنه؟!
فهذا هو حال من يرجع إلى المعاصي والفسق والمجون ويترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان, فبعد أن تنعم بنعيم الطاعة ولذة المناجاة, وحلاوة القرب, تجده يرجع القهقرى إلى جحيم المعاصي والفجور, بعد أن أنقذه الله من هذا كله.
فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان, نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى, ومن الخذلان بعد التوفيق, ومن العمى بعد البصيرة, ومن الشك بعد اليقين.
أخي المبارك أختي المباركة: ولنقض العهد بعد توكيده أمور ومظاهر عديدة ومتنوعة عند الناس, فمنها على سبيل المثال لا الحصر:
1. ما نراه من بعض الناس إضاعتهم للصلاة مع الجماعة أو فرادى في أول يوم العيد, فبعد أن كانت المساجد ممتلئة بالمصلين في صلاة التروايح -التي هي سُنة -نراها قد قَلَّ روادها في الصلوات الخمس التي هي فرض, ويكفر تاركها!! فما إن انسلخ رمضان حتى اختفوا وانمحت آثارهم من المساجد, وقبعوا في بيوتهم, كأنهم استغنوا عن الله والعياذ بالله, أو كأن الواجبات سقطت عنهم, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
2. التبرج والسفور والاختلاط في الحدائق والذهاب إلى الملاهي رجالاً ونساءً والاستماع إلى الأغاني الماجنة ومشاهدة الأفلام الداعرة العفنة التي تهجم هجوماً شرساً على العفة والحياء, والمعاكسات القبيحة بأنواعها, والنظر إلى ما حرَّم الله, وكأن القوم فُك أسرهم وأُطْلق سراحهم بعد سجن طال أمده, وكأنهم نشطوا من عقال! وكأن المحرمات قد كان عليها حظر في رمضان ثم رُفع وأبيحت لهم بعد رمضان, فانطلقوا نحوها كالكلاب المسعورة التي ألهبها سياط الجوع, وأضناها سوط الظمأ, وفجأة وجدت ما فقدت من الطعام والشراب والملذات, فاندفعت إليها بقوة, وانغمست فيها بشراهة, فأكلت حتى تخمت, وشربت حتى ثملت, فهكذا القوم فهم ثمالى سكارى تتلاعب بهم الأهواء وتحركهم الشهوات, غابت عقولهم, وحجبت عنهم الحقيقة, فهم غرقى في بحر الشهوات والملذات المحرَّمة, ظلمات بعضها فوق بعض كلما أراد أن يخرج منها لا يستطيع, فإذا ما انتهى من شهوة بحث عن أخرى, فهو لا يتروى ظمأه, ولا تهدأ نفسه كشارب ماء البحر فلا يرتوي ظمأه, ولا ينقطع عطشه بل يزيد, فهو دائم الطلب عن الحرام, حثيث السير نحوه.
3. ومن ذلك أيضاً السفر خارج البلاد للمعصية فترى الناس على أبواب وكالات السفر زرافات ووحداناً يتسابقون لشراء تذاكر السفر إلى بلاد الكفر والانحلال والفساد, وإلى غير ذلك من المحرمات التي تغضب الرب سبحانه, وكأن لسان حال القوم يقول: بأن الله يراهم وهم في داخل بلادهم, أما خارجها فلا! تعالى الله عما يظنون علواً كبيراً, فالله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, ولا يغيب عن ملكه وسمعه وبصره وعلمه شاردة ولا واردة إلا وعلم مستقرها ومستودعها, فسبحان من أحاط بكل شيء علماً, قال تعالى:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(سورة الأنعام الآية (59)).
وقال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(المجادلة الآية (7)).
يُحكى أن رجلاً راود امرأة عن نفسها, فقالت له إن أردت فاذهب بنا في مكان لا يرانا فيه أحد, فذهب بها في الليل الدامس والظلام الحالك إلى صحراء بيداء, يبيدُ فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد, وقال لها: أظن أن هذا المكان لا يرانا فيه أحد, ورفع بصره إلى السماء وقال: إلا هذه الكواكب, فقالت المرأة وأين مكوكبها؟ أين الله؟!
وهذا آخر يسير مع امرأة في الخلاء في إحدى الغابات ويقول لها بزهوه وغطرسته: لو أردت أن أفعل بك ما أريد فلا يمنعني شيء, ولا يراني أحد! فسمع صوتاً من أعلى يقول: قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك الآية (14)).
نعم:
إذا ما خلوت بريبة فـي ظلمـــة *** والنفـــس داعيــــة إلى الطغيـــان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** يا نفس إن الذي خلق الظلام يرانِ
دخل الأديب الكبير ثعلب على الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -فقال له الإمام: يا ثعلب ! ماذا تحفظ من الشعر؟ قال: أحفظ قول القائل:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفــــل طرفـــة *** وأن مـا تخفيه عنــه يغيبُ
فقام الإمام أحمد من مجلسه, ورمى ما في يده من الكتب, ودخل غرفة, وأغلق من دونه الباب, فسمع تلامذته بكائه من خلف الباب وهو يردد الأبيات:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفــــل طرفـــة *** وأن مـا تخفيه عنــه يغيبُ
فسبحان من لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء !
أخي في الله: اعلم –وفق ني الله وإياك -أن من علامات قبول العمل والتوفيق إتباع الحسنة بحسنة مثلها, ومن علامات رد العمل والخذلان إتباع الحسنة سيئة قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}(محمد الآية (33)).
فكما أن الحسنات يذهبن السيئات, فإن السيئات تؤثر على الحسنات, وقد قيل: ذنب بعد توبة أقبح من سبعين قبلها.
بكى بعض السلف عند الموت, فسُئل عن ذلك, فقال: أبكي على ليلة ما قمتها, وعلى يوم ما صمته, الله أكبر فإذا كان هؤلاء الأبرار يبكون ويندمون عند الموت على ترك النوافل, فما بالك بندامة من ضيع الفرائض؟
أخي الكريم أختي الكريمة: إن للقبول والربح في رمضان علامات واضحة, وللخسران والرد علامات أيضاً واضحة وضوح شمس في رابعة النهار, يعرفها كل إنسان في نفسه, ففكر في نفسك!.
فمن كان حاله بعد رمضان كحاله قبله أو أسوأ منه مقيم على المعاصي, غارق في الملذات منغمس في الشهوات المحرمة من سماع وطرب ومجون ومشاهدة إلى ما يغضب الرب جل جلاله, بعيد عن الطاعة متخاذل, نشيط في ارتكاب المعاصي ومسارع, تارك ما أوجبه الله عليه, يسمع النداء للصلاة فلا يجيب, ويعصي الله ولا يخاف ويتوب وينيب, لا يدخل مع المسلمين في بيوت الله, لا يشهد الجمعة ولا الجماعات, لا يتلو كتاب الله, ولا يتأثر بالوعد والوعيد, ولا يردعه التهديد, سماعه للأغاني والمزامير, ونطقه قول البهتان والزور, وشرابه الدخان والمخدرات والخمور, وماله من الرشوة والربا, وبيع السلع المحرَّمة , وسلوكه الكذب والخداع في المعاملة والغش والفجور, فمن كان هذا حاله, فماذا استفاد من رمضان؟ ومن مواسم المغفرة والرضوان؟ إنه لم يستفد سوى الآثام والخذلان والخسران والعقاب والنيران, والخيبة والحرمان, فيا عظم الخسارة, ويا فداحة المصيبة, ويا هول العقوبة, ويا شدة الفاجعة, نعوذ بالله من الحور بعد الكور, ومن الكسل بعد المنشط, ومن الفتور بعد الهمة, ومن البعد بعد القرب, ومن الهجر بعد الوصل.
فاتق الله يا أخي وواصل السير إلى الله, فمن زرع وتعاهد زرعه بالسقيا حصد, ومن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نادماً يوم الحصاد.
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً *** ندمت على التفريط في زمن البذر
أخي الكريم أختي الكريمة:
تذكر بمضي الليالي والأيام والليل والنهار, سرعة انقضاء الأعمار وقرب الرحيل من الديار, فكم لك في المواعظ فيمن تعرف ممن فارقوا المنازل والقصور, وما كانوا فيه من النعيم والحبور, فسكنوا الأجداث والقبور, وانتقلوا من ضياء المهود إلى ظلمة اللحود, ومن التنعم بالأكل والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب, ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان, ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل.
فالسعيد من وُعظ بغيره, واتعظ وعقل عن الله أمره فخافه, وأدى ما عليه فُرِضَ, وإن الشقي من فرط في ماضيه, ولم ينتفع من أيامه ولياليه, ولم يتدارك بقيه عمره في الإنابة إلى خالقه وباريه, والمسارعة في التقرب إلى المنعم عليه بما يرضيه, قبل أن يوقف رغم أنفه بين يدي ربه, وإذا بالمولى سائله فماذا يكون جوابه؟ وإذا قرره بما جنته يداه في دنياه, فبما يكون اعتذاره وشهوده من نفسه{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(يس الآية (65)).
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن من نوقش الحساب يوم القيامة فقد عذب ([3]).
وهناك قسم آخر من الناس فرط في تلك الثروة العظيمة والتجارة الرابحة, فلم يرعها حق رعايتها, فحرم نفسه خيراً كثيراً واكتسب وزراً كبيراً, وخسر خسراناً مبيناً, فهذا الشقي هو الذي لم يردعه الصيام عن فعل المعاصي والآثام, ولم يتغير عن ماضيه قبل رمضان فكان صيامه عن الطعام والشراب فقط, هذا إن صام! وهذا أهون الصيام كما قال بعض السلف: أهون الصيام أن تصوم عن الطعام والشراب, فهو في نهار رمضان قوله زوراً وبهتاناً, صام عن الطعام والشراب, وأفطر على لحوم المسلمين وأعراضهم من السب والشتم والهتك, وسمعه على ما حرم الله من اللهو واللغو والطرب والموسيقى, وبصره على ما حرم الله من مشاهد العري والفساد والخلاعة, وإذا جن عليه الليل فهو مرتكب للكبائر شارب للخمر, مدمن للمخدرات عابث بأعراض الناس, فهو في كل أحواله مضيع لحدود الله, فلا يأتمر بأمر, ولا ينتهي بنهي, فهو في كل وادي من أودية المعاصي هائم, ولكل باب من أبواب الشر مقبل وطارق, ولأبواب الخير والبر صاد ومدبر.
فقل لي بالله عليك: أي رمضان كان عند من هذا حاله؟ هل يتوقع أن يتغير حاله بعد رمضان,؟ فهو بعد رمضان أشد ضراوة من رمضان, فهو متخبط في مستنقع المعاصي الآسن, مرتكب لكل صغيرة وكبيرة, ولم يترك شاذة ولا فاذة, ولا شاردة ولا واردة إلا اقترفها بكلتا يديه, وما يملك من سبيل, وكأنه في سباق يريد أن يفوز بجدارة.
نعم: هو في سباق لكن مع الهوى والنفس والشيطان.
فهو ملازم للمعصية مصراً عليها, لا يهدأ له بال, ولا يسكن له خاطر, ولا يستقر له قرار, مضطرب دائماً غير هادي, قلق غير مطمئن, ينتقل من معصية إلى أخرى باحثاً عن الراحة والمتعة فلا يجد إلا التعب والشقاء, وصدق الله حيث يقول:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} في الدنيا {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} إن لم يتب إلى الله. (طه الآية (124)).
ومع ذلك فهو غير مكترث بما يفعل, بل أصبحت هذه المعاصي ملازمة له ليل نهار فهو ينام على معصية الله ويقوم على معصية الله, وهذا من خلو القلب من محبة الله, وعدم خشيته مما يؤدي إلى عدم الخوف من الله.
فإن القلب إذا خلا من محبة الله وانشغل بمحبة من سواه, أورث ذلك عدم خشية لله, فإذا كان الحال كذلك, فإنه لا يعرف لله قدره, ولا يدرك له فضله ونعمه, ولا يشعر بإحسان الله إليه, وامتنانه عليه, فتهين عنده أوامر الله ونواهيه, فلا يخضع لربه ومولاه, فترتفع في ساحته ألوية الحرب والتعدي, والتمرد على حدود الله, فهو منتهك لحرمات الله سراً وعلانية, بالليل والنهار, بالقول والفعل, وهو بذلك قد آثر الهجر على الوصال, والبعد عن القرب, فلا تراه إلا حيث نهاه الله, وتفتقده فيما كان يحب أن يراه الله, فهو للشيطان خليل, وللنفس سامع مطيع, وللهوى صديق حميم, ولربه ومولاه وخالقه عدو لئيم, ومعاند ذميم, فهو للشر مسارع ومناضل, وقلبه حاضر, وللخير متوان ومتخاذل وقلبه غافل, فيا حسرة قلبه, وشدة أسفه عندما يجني ما زرعت يداه في وقت الحصاد, وذلك عندما تنفطر السماء, وتنتثر الكواكب, وتفجر البحار, ويُبعثر ما في القبور, ويُحصل ما في الصدور, عندما ينتقل هذا المسكين من عالم الغيب إلى عالم الشهادة والمعاتبة{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران الآية (30)).
فيا من هذا حاله أفنيت عمرك في اللعب وأنت عنيد, وغيرك فاز بالمقصود وأنت منه بعيد, غيرك على الجادة وأنت في شهوات وتنكيد, تُرى متى يقال: فلان عن المعاصي رجع واستقال؟! يا له من يوم سعيد, متى تخرج من الهوى وترجع إلى مولاك العزيز الحميد؟!
يا مسكين, لو عاينت قلق التائبين , وتململ الخائفين من هول الوعيد, جعلوا قرة أعينهم في الصلاة والزكاة والتزهيد, وأهل الحرمان ضيعوا الشباب في الغفلة, والشيب في الحرص والأمل المديد, لا بالشباب انتفعت ولا عند المشيب ارتجعت, يا ضيعة الشباب والمشيب{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}(سبأ الآية (51)).
أخي في الله:
إن مواسم الخير بين أيدينا موصولة ومتكررة فبين أيدينا موسم يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات وهي الصلوات الخمس التي فرضها الله علينا, فهي تدعونا لحضورها في المساجد لنقف بين يدي الله نستغفره, ونسأله التوبة والفضل من عنده, وهناك أيضاً موسم وعيد, يتكرر كل أسبوع وهو يوم الجمعة الذي اختص الله به هذه الأمة, وفيه ساعة إجابة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه ([4]).
وبين أيدينا مواسم في جوف الليل, وفي وقت الأسحار, وفي دبر كل صلاة من ذكر واستغفار وتوبة وتلاوة للقرآن.
أخي:
إن فضل الله علينا متواصل, ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها, فإنه لما انقضى شهر رمضان دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام, فكما أن من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه, فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه([5]). فما يمضي من عُمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات.
فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف ويتقرب بها إلى مولاه, فاشكر الله على هذه النعم واغتنمها بطاعته ولا تضيعها بالغفلة والإعراض عنه.
اللهم بلغتنا شهر رمضان فاجعل عامه علينا من أبرك الأعوام, وأيامه من أسعد الأيام, وتقبل منا ما قدمناه فيه من الصيام والقيام, واغفر لنا ما اقترفنا فيه من الآثام, وخلصنا من مظالم الأنام, يوم لا يرجى فيه سواك يا علام.
اللهم يا عالم الخفيات, ويا دافع البليات, ويا كاشف الكربات, ويا مجيب الدعوات, أعتق رقابنا ووالدينا وأقرباءنا وأزواجنا وذرياتنا من النار, وما فيها من اللفحات, وارفع لنا بصيام شهر رمضان عندك الدرجات, وانفعنا بما صرّفت في كتابك من الآيات, وكفر بتلاوته عنا السيئات, وضاعف لنا الحسنات, واغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا ولجميع المسلمين, الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وللمزيد ارجع إلى كتابي واحات الإيمان في ظلال شهر رمضان (2/254-275).
-------------------------------------
[1] . أخرجه مسلم (2759) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] . حديث : قاتل مئة نفس متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري, وحديث فرح الرب بتوبة العبد متفق عليه من حديث أنس.
[3] . متفق عليه أخرجه البخاري (103) ومسلم (2876) واللفظ له من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
[4] . ثبت ذلك في صحيح مسلم (852) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] . ثبت ذلك في صحيح البخاري (1521) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته